الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قال القاضي أبو محمد: وهذا القول أصح من الأول من جهات، أولها أن ظواهر كتاب الله عز وجل تقتضيه وحديث الرسول عليه السلام ينطق به، من ذلك: قوله لبعض الصحابة وقد قال له يا رسول الله أين أجدك في القيامة؟ فقال «اطلبني عند الحوض فإن لم تجدني فعند الميزان»، ولو لم يكن الميزان مرئيًا محسوسًا لما أحاله رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطلب عنده، وجهة أخرى أن النظر في الميزان والوزن والثقل والخفة المقترنات بالحساب لا يفسد شيء منه ولا تختل صحته، وإذا كان الأمر كذلك فلم نخرج من حقيقة اللفظ إلى مجازه دون علة؟ وجهة ثالثة وهي أن القول في الميزان هو من عقائد الشرع الذي لم يعرف إلا سمعًا، وإن فتحنا فيه باب المجاز غمرتنا أقوال الملحدة والزنادقة في أن الميزان والصراط والجنة والنار والحشر ونحو ذلك إنما هي ألفاظ يراد بها غير الظاهر.وروي هذا القول عن مجاهد والضحاك وغيره، وكذلك استعير على قولهم الثقل والخفة لكثرة الحسنات وقلتها، وقال جمهور الأمة: إن الله عز وجل أراد أن يعرض لعباده يوم القيامة تحرير النظر وغاية العدل بأمر قد عرفوه في الدنيا وعهدته أفهامهم، فميزان القيامة له عمود وكفتان على هيئة موازين الدنيا، قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: صاحب الموازين يوم القيامة جبريل عليه السلام، وقالوا: هذا الذي اقتضاه لفظ القرآن ولم يرده نظر.قال القاضي أبو محمد: فينبغي أن يجري في هذه الألفاظ إلى حملها على حقائقها، وأما الثقل والخفة فإن الآثار تظاهرت بأن صحائف الحسنات والسيئات توضع في كفتي الميزان فيحدث الله في الجهة التي يريد ثقلًا وخفة على نحو إحداثه ذلك في جسم رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقت نزول الوحي عليه، ففي الصحيح من حديث زيد بن ثابت أنه قال: كنت أكتب حتى نزلت {غير أولي الضرر} [النساء: 95] وفخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي حتى كادت أن ترض فخذي، وفي الحديث أنه كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته بركت به عجزًا عن حمله لثقل الحادث فيه، ولابد لنا أن نعلم أن الثقل الحادث مع الحسنات إنما يتعلق بجسم، إذ العرض لا يقول بالعرض، فجائز أن يحدث الثقل في الصحائف وهو أقربها إلى الظن، وجائز أن يحدث في ذلك من الأجسام المجاورة لتلك الحال، وإلى حدوثه في الصحائف ذهب أبو المعالي، ورويت في خبر الميزان آثار عن صحابة وتابعين في هيئته وطوله وأحواله لم تصح بالإسناد، فلم نر للإطالة بها وجهًا، وقال الحسن فيما روي عنه: بلغني أن لكل أحد يوم القيامة ميزانًا على حدة.قال القاضي أبو محمد: وهذا قول مردود الناس على خلافه، وإنما لكل أحد وزن يختص به والميزان واحد، وروي عن مجاهد في قوله: {ثقلت موازينه} أن الموازين الحسنات نفسها.قال القاضي أبو محمد: وجمع لفظ الموازين إذ في الميزان موزونات كثيرة فكأنه أراد التنبيه عليها بجمعه لفظ الميزان. و{المفلحون} في اللغة المدركون لبغيتهم الناجحون في طلبهم ومنه قول عبيد: [الرجز] فأما قول الشاعر: [المنسرح] قال القاضي أبو محمد: والبقاء بلوغ بغية بلوغ بغية فالمعنيان متقاربان، ووزن الله تعالى أعمال العباد مع علمه بدقائق الأشياء وجلائلها نظير كتبه أعمالهم في صحائفهم واستنتساخه ذلك ونظير استنطاقه جوارحهم بالشهادة عليهم إقامة للحجة وإيضاحًا، فقد تقرر في الشرع أن كلمة التوحيد ترجح ميزان من وزنت في أعماله ولابد، فإن قال قائل كيف تثقل موازين العصاة من المؤمنين بالتوحيد ويصح لهم حكم الفلاح ثم تدخل طائفة منهم النار وذلك شقاء لا محالة؟ فقالت طائفة إنه توزن أعمالهم دون التوحيد فتخف الحسنات فيدخلون النار ثم عند إخراجهم يوزن التوحيد فتثقل الحسنات فيدخلون الجنة، وأيضًا فمعرفة العاصي أنه غير مخلد فلاح وإن تقدمه شقاء على جهة التأديب. اهـ.
يعني: مثل كلامه ولفظه.فصل:والقول بالميزان مشهور في الحديث، وظاهر القرآن ينطق به.وأنكرت المعتزلة ذلك، وقالوا: الأعمال أعراض، فكيف توزن؟ فالجواب: أن الوزن يرجع إلى الصحائف، بدليل حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله عز وجل يستخلص رجلًا من أمتي على رؤوس الناس يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سِجِلًا، كُلُّ سِجِلٍّ مدُّ البصر، ثم يقول له: أتنكر من هذا شيئا؟ أظلمتك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب.فيقول: ألك عذر أو حسنة؟ فيبهت الرجل، فيقول: لا يا رب؛ فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنة واحدة، لا ظُلم عليك اليوم، فيُخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فتوضع السجِلاَّت في كفة، والبطاقة في كفة، قال: فطاشت السجلات وثقلت البطاقة» أخرجه أحمد في مسنده، والترمذي.وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يؤتى بالرجل الطويل الأكول الشروب، فلا يزن جناح بعوضة» فعلى هذا يوزن الإنسان.قال ابن عباس: توزن الحسنات والسيئات في ميزان، له لسان وكِفّتان.فأما المؤمن، فيؤتى بعمله في أحسن صورة، فيوضع في كفة الميزان، فتثقل حسناته على سيئاته، وأما الكافر، فيؤتى بعمله في أقبح صورة، فيوضع في كفة الميزان، فيخف وزنه.وقال الحسن: للميزان لسان وكفتان.وجاء في الحديث: «أن داود عليه السلام سأل ربه ان يريه الميزان، فأراه إياه، فقال: يا إلهي، من يقدر أن يملأ كفتيه حسنات، فقال: يا داود إني إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة» وقال حذيفة: جبريل صاحب الميزان يوم القيامة، فيقول له ربه: زن بينهم، ورُدَّ من بعضهم على بعض؛ فيرد على المظلوم من الظالم ما وجد له من حسنة.فإن لم تكن له حسنة، أخذ من سيئات المظلوم، فرد على سيئات الظالم، فيرجع وعليه مثل الجبال.فإن قيل: أليس الله يعلم مقادير الأعمال، فما الحكمة في وزنها؟ فالجواب: أن فيه خمسة حكم.إِحداها: امتحان الخلق بالإِيمان بذلك في الدنيا.والثانية: إظهار علامة السعادة والشقاوة في الأخرى.والثالثة: تعريف العباد ما لهم من خير وشر.والرابعة: إقامة الحجة عليهم.والخامسة: الإعلام بأن الله عادل لا يظلم.ونظير هذا أنه أثبت الاعمال في كتاب، واستنسخها من غير جواز النسيان عليه. اهـ.
|